فصل: تفسير الآيات (42- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 41):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}
لما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح؛ لأنه أوّل من صنعه، وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه معه، واللام جواب قسم محذوف {فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله} أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً كما يستفاد من الآيات الآخرة، وجملة: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} واقعة موقع التعليل لما قبلها، وارتفاع {غيره} لكونه وصفاً لإله على المحل؛ لأنه مبتدأ خبره لكم، أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه، وقرئ بالجرّ اعتباراً بلفظ إله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحقّ العبادة غيره، وليس لكم إله سواه. وقيل: المعنى أفلا تخافون أن يرفع عنكم ما خوّلكم من النعم ويسلبها عنكم. وقيل: المعنى: أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم.
{فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي قال أشراف قومه الذين كفروا به: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي من جنسكم في البشرية، لا فرق بينكم وبينه {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يطلب الفضل عليكم بأن يسودكم حتى تكونوا تابعين له منقادين لأمره، ثم صرّحوا بأن البشر لا يكون رسولاً فقالوا: {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} أي لو شاء الله إرسال رسول لأرسل ملائكة، وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال؛ لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم {مَا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} أي بمثل دعوى هذا المدّعي للنبوّة من البشر، أو بمثل كلامه، وهو الأمر بعبادة الله وحده أو ما سمعنا ببشر يدّعي هذه الدعوى في آبائنا الأوّلين، أي في الأمم الماضية قبل هذا. وقيل: الباء في: {بهذا} زائدة، أي ما سمعنا هذا كائناً في الماضين، قالوا: هذا اعتماداً منهم على التقليد واعتصاماً بحبله. ولم يقنعوا بذلك حتى ضموا إليه الكذب البحت، والبهت الصراح فقالوا: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون لا يدري ما يقول: {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} أي انتظروا به حتى يستبين أمره، بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى، أو حتى يموت فتستريحوا منه. قال الفراء: ليس يريد بالحين هنا وقتاً بعينه إنما هو كقولهم: دعه إلى يوم ما. فلما سمع عليه الصلاة والسلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه {قَالَ رَبّ انصرني} عليهم فانتقم منهم بما تشاء وكيف تريد، والباء في: {بِمَا كَذَّبُونِ} للسببية، أي: بسبب تكذيبهم إياي.
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عند ذلك أي أرسلنا إليه رسولاً من السماء {أَنِ اصنع الفلك} وأن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول: {بِأَعْيُنِنَا} أي متلبساً بحفظنا وكلاءتنا، وقد تقدّم بيان هذا في هود. ومعنى {وَوَحْيِنَا}: أمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها، والفاء في قوله: {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك، والمراد بالأمر: العذاب {وَفَارَ التنور} معطوف على الجملة التي قبله عطف النسق؛ وقيل: عطف البيان، أي إن مجيء الأمر هو فور التنور، أي تنور آدم الصائر إلى نوح، أي إذا وقع ذلك {فاسلك فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي ادخل فيها، يقال: سلكه في كذا أدخله وأسلكته أدخلته. قرأ حفص: {من كلّ} بالتنوين، وقرأ الباقون بالإضافة، ومعنى القراءة الأولى: من كلّ أمة زوجين، ومعنى الثانية: من كل زوجين، وهما أمة الذكر والأنثى اثنين، وانتصاب {أَهْلَكَ} بفعل معطوف على {فاسلك} لا بالعطف على زوجين، أو على {اثنين} على القراءتين لأدائه إلى اختلاف المعنى، أي واسلك أهلك {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي القول بإهلاكهم منهم {وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ} بالدعاء لهم بإنجائهم، وجملة: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} تعليل للنهي عن المخاطبة أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لظلمهم، ومن كان هكذا فهو لا يستحق الدعاء له.
{فَإِذَا استويت} أي: علوت {أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} من أهلك وأتباعك {عَلَى الفلك} راكبين عليه {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} أي حال بيننا وبينهم، وخلصنا منهم، كقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الأنعام: 45].
وقد تقدّم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والكمال، وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً؛ لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة، وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب.
ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتمّ فائدة فقال: {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أي أنزلني في السفينة. قرأ الجمهور: {منزلاً} بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر. وقرأ زرّ بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل بفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان. فعلى القراءة الأولى: أنزلني إنزالاً مباركاً، وعلى القراءة الثانية: أنزلني مكاناً مباركاً، قال الجوهري: والمنزل بفتح الميم والزاي النزول، وهو الحلول، تقول: نزلت نزولاً ومنزلاً. قال الشاعر:
أإن ذكرتك الدار منزلها جمل ** بكيت فدمع العين منحدر سجل

بنصب منزلها؛ لأنه مصدر. قيل: أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة. وقيل: عند خروجه منها، والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول: {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} هذا ثناء منه على الله عزّ وجلّ إثر دعائه له.
قال الواحدي: قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك: الحمد لله، وعند نزوله منها: ربّ أنزلني منزلاً مباركاً، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى ما تقدّم مما قصه الله علينا من أمر نوح عليه السلام: والآيات الدلالات على كمال قدرته سبحانه، والعلامات التي يستدلّ بها على عظيم شأنه {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم؛ ليظهر المطيع والعاصي للناس أو للملائكة. وقيل: المعنى: إنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم، تارة بالإرسال، وتارة بالعذاب.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} أي من بعد إهلاكهم. قال أكثر المفسرين: إن هؤلاء الذين أنشأهم الله بعدهم هم عاد قوم هود، لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح في غير هذا الموضع، ولقوله في الأعراف: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]. وقيل: هم ثمود؛ لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة.
وقد قال سبحانه في هذه القصة: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} [الحجر: 73 و83]. وقيل: هم أصحاب مدين قوم شعيب؛ لأنهم ممن أهلك بالصيحة {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} عدّى فعل الإرسال بفي مع أنه يتعدّى بإلى؛ للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم بين أظهرهم، يعرفون مكانه ومولده، ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم. وقيل: وجه التعدية للفعل المذكور بفي أنه ضمن معنى القول، أي قلنا لهم على لسان الرسول {اعبدوا الله} ولهذا جيء بأن المفسرة. والأوّل أولى؛ لأن تضمين أرسلنا معنى قلنا لا يستلزم تعديته بفي، وجملة: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} تعليل للأمر بالعبادة {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عذابه الذي يقتضيه شرككم.
{وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ} أي أشرافهم وقادتهم. ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال: {الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة} أي كذبوا بما في الآخرة من الحساب والعقاب، أو كذبوا بالبعث {وأترفناهم} أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه {في الحياة الدنيا} من كثرة الأموال ورفاهة العيش {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي قال الملأ لقومهم هذا القول، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفي الأكل: {مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} والشرب: {مما تشربون} منه، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم. قال الفرّاء: إن معنى {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} على حذف منه أي: مما تشربون منه وقيل: إن ما مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ} فيما ذكر من الأوصاف {إِنَّكُمْ إذاً لخاسرون} أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم. والاستفهام في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتمْ} للإنكار، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له.
قرئ بكسر الميم من {متم}، من مات يمات كخاف يخاف، وقرئ بضمها من مات يموت، كقال يقول. {وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما} أي كان بعض أجزائكم تراباً، وبعضها عظاماً نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها. وقيل: وتقديم التراب؛ لكونه أبعد في عقولهم. وقيل: المعنى: كان متقدّموكم تراباً، ومتأخروكم عظاماً {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} أي من قبوركم أحياء كما كنتم، قال سيبويه: (أنّ) الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها، وأن الثانية بدلّ منها.
وقال الفرّاء والجرمي والمبرّد: إن (أن) الثانية مكرّرة للتوكيد، وحسن تكريرها لطول الكلام، وبمثله قال الزجاج.
وقال الأخفش: (أن) الثانية في محل رفع بفعل مضمر، أي يحدث إخراجكم كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى: اليوم يحدث القتال.
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد ما توعدون، أو بعيد ما توعدون، والتكرير للتأكيد. قال ابن الأنباري: وفي هيهات عشر لغات ثم سردها، وهي مبينة في علم النحو.
وقد قرئ ببعضها، واللام في {لما توعدون} لبيان المستبعد كما في قولهم: هيت لك، كأنه قيل: لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل: لما توعدون. والمعنى: بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون، هذا على أن هيهات اسم فعل، وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر، أي البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون، على قراءة من نوّن فتكون على هذا مبتدأ خبره: {لما توعدون}.
ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} مفسرة لما ادّعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا. ثم صرحوا بنفي البعث، وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} أي ما هو فيما يدّعيه إلا مفتر للكذب على الله {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي بمصدّقين له فيما يقوله. {قَالَ رَبّ انصرنى} أي: قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدّقونه ألبتة: ربّ انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي.
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} أي قال الله سبحانه مجيباً لدعائه واعداً له بالقبول لما دعا به: عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد والإصرار على الكفر. و{ما} في: {عما قليل} مزيدة بين الجارّ والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 159].
ثم أخبر سبحانه بأنها {أَخَذَتْهُمُ الصيحة} وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعاً.
وقيل: الصيحة: هي نفس العذاب الذي نزل بهم، ومنه قول الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ** خرّوا لشدّتها على الأذقان

والباء في: {بالحق} متعلق بالأخذ، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم: فقال: {فجعلناهم غُثَاء} أي كغثاء السيل الذي يحمله: والغثاء ما يحمله، والغثاء: ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله على ظاهر الماء. والمعنى: صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء {فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين} انتصاب {بعداً} على المصدرية وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها، أي بعدوا بعداً، واللام لبيان من قيل له ذلك.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فاسلك فِيهَا} يقول: اجعل معك في السفينة {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} قال لنوح حين أنزل من السفينة.
وأخرج هؤلاء عن قتادة في الآية قال: يعلمكم سبحانه كيف تقولون إذا ركبتم، وكيف تقولون إذا نزلتم. أما عند الركوب: {فسبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41]. وعند النزول: {رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {قَرْناً} قال: أمة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} قال: بعيد بعيد.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {فجعلناهم غُثَاء} قال: جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر.

.تفسير الآيات (42- 56):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد إهلاكهم {قُرُوناً ءَاخَرِينَ} قيل: هم قوم صالح ولوط وشعيب كما وردت قصتهم على هذا الترتيب في الأعراف وهود، وقيل: هم بنو إسرائيل. والقرون الأمم، ولعل وجه الجمع هنا للقرون والإفراد فيما سبق قريباً: أنه أراد ها هنا أمماً متعدّدة وهناك أمة واحدة. ثم بين سبحانه كمال علمه وقدرته في شأن عباده فقال: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئخِرُونَ} أي ما تتقدّم كل طائفة مجتمعة في قرن آجالها المكتوبة لها في الهلاك ولا تتأخر عنها، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
ثم بين سبحانه أن رسله كانوا بعد هذه القرون متواترين، وأن شأن أممهم كان واحداً في التكذيب لهم فقال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا} والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها بمعنى: أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء القرن الذي أرسل إليه، لا على معنى أنّ إرسال الرسل جميعاً متأخر عن إنشاء تلك القرون جميعاً، ومعنى {تتراً}: تتواتر واحداً بعد واحد ويتبع بعضهم بعضاً، من الوتر وهو الفرد. قال الأصمعي: واترت كتبي عليه: أتبعت بعضها بعضاً إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة.
وقال غيره: المتواترة المتتابعة بغير مهلة. قرأ ابن كثير، وابن عمرو {تترى} بالتنوين على أنه مصدر. قال النحاس: وعلى هذا يجوز {تترى} بكسر التاء الأولى؛ لأن معنى {ثم أرسلنا}: واترنا، ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي متواترين {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} هذه الجملة مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته على أن المراد بالمجيء: التبليغ {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي في الهلاك بما نزل بهم من العذاب {وجعلناهم أَحَادِيثَ} الأحاديث جمع أحدوثة، وهي ما يتحدّث به الناس كالأعاجيب جمع أعجوبة، وهي ما يتعجب الناس منه. قال الأخفش: إنما يقال جعلناهم أحاديث في الشرّ، ولا يقال في الخير، كما يقال: صار فلان حديثاً، أي عبرة، وكما قال سبحانه في آية أخرى: {فجعلناهم أَحَادِيثَ ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]. قلت: وهذه الكلية غير مسلمة فقد يقال: صار فلان حديثاً حسناً، ومنه قول ابن دريد في مقصورته:
وإنما المرء حديث بعده ** فكن حديثاً حسناً لمن روى

{فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} وصفهم هنا بعدم الإيمان، وفيما سبق قريباً بالظلم لكون كل من الوصفين صادراً عن كل طائفة من الطائفتين، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرّد عدم التصديق، وأولئك ضموا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي من أشد الظلم وأفظعه.
ثم حكى سبحانه ما وقع من فرعون وقومه عند إرسال موسى وهارون إليهم فقال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا} هي التسع المتقدّم ذكرها غير مرّة، ولا يصح عدّ فلق البحر منها هنا؛ لأن المراد: الآيات التي كذبوا بها واستكبروا عنها.
والمراد بالسلطان المبين: الحجة الواضحة البينة. قيل: هي الآيات التسع نفسها، والعطف من باب:
إلى الملك القرم وابن الهمام

وقيل: أراد العصي؛ لأنها أمّ الآيات، فيكون من باب عطف جبريل على الملائكة. وقيل: المراد بالآيات: التي كانت لهما، وبالسلطان: الدلائل. المبين: التسع الآيات، والمراد بالملأ في قوله: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} هم الأشراف منهم كما سبق بيانه غير مرّة {عَادٌ فاستكبروا} أي: طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق {وَكَانُواْ قَوْماً عالين} قاهرين للناس بالبغي والظلم، مستعلين عليهم، متطاولين كبراً وعناداً وتمرّداً، وجملة: {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} معطوفة على جملة: {استكبروا} وما بينهما اعتراض، والاستفهام للإنكار، أي كيف نصدق من كان مثلنا في البشرية؟ والبشر يطلق على الواحد كقوله: {بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] كما يطلق على الجمع كما في قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} [مريم: 26]. فتثنيته هنا هي باعتبار المعنى الأول، وأفرد المثل لأنه في حكم المصدر، ومعنى {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون}: أنهم مطيعون لهم منقادون لما يأمرونهم به كانقياد العبيد. قال المبرّد: العابد: المطيع الخاضع. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان الملك: عابداً له. وقيل: يحتمل أنه كان يدّعي الإلهية فدعى الناس إلى عبادته فأطاعوه، واللام في: {لَنَا} متعلقة ب {عابدون}، قدّمت عليه لرعاية الفواصل، والجملة حالية {فَكَذَّبُوهُمَا} أي فأصّروا على تكذيبهما. {فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} بالغرق في البحر.
ثم حكى سبحانه ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوّهم فقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني التوراة، وخصّ موسى بالذكر؛ لأن التوراة أنزلت عليه في الطور، وكان هارون خليفته في قومه. {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي لعلّ قوم موسى يهتدون بها إلى الحق، ويعملون بما فيها من الشرائع، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاء لقومه؛ لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه. وقيل: إن ثمّ مضافاً محذوفاً أقيم المضاف إليه مقامه، أي آتينا قوم موسى الكتاب. وقيل: إن الضمير في: {لَعَلَّهُمْ} يرجع إلى فرعون وملائه، وهو وهم؛ لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك فرعون وقومه، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى} [القصص: 43].
ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالاً فقال: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً} أي علامة تدلّ على عظيم قدرتنا، وبديع صنعنا، وقد تقدّم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه: {وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين} [الأنبياء: 91]. ومعنى قوله: {وآويناهما إلى ربوة} إلى مكان مرتفع، أي جعلناهما يأويان إليها.
قيل: هي أرض دمشق، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل. وقيل: بيت المقدس، قاله قتادة وكعب وقيل: أرض فلسطين، قاله السديّ. {ذَاتِ قَرَارٍ} أي ذات مستقرّ يستقرّ عليه ساكنوه {وَمَعِينٍ} أي وماء معين. قال الزجاج: هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في منبع. وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول. قال عليّ بن سليمان الأخفش: معن الماء: إذا جرى فهو معين وممعون وكذا قال ابن الأعرابي: وقيل: هو مأخوذ من الماعون، وهو النفع، وبمثل ما قال الزجاج قال الفرّاء: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} قال الزجاج: هذه مخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلّ الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا؛ وقيل: إن هذه المقالة خوطب بها كل نبيّ، لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها، فيكون المعنى: وقلنا: يا أيها الرسل خطاباً لكل واحد على انفراده، لاختلاف أزمنتهم.
وقال ابن جرير: إن الخطاب لعيسى.
وقال الفرّاء: هو كما تقول للرجل الواحد: كفوا عنا، و{الطيبات}: ما يستطاب ويستلذّ، وقيل: هي الحلال، وقيل: هي ما جمع الوصفين المذكورين. ثم بعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال: {واعملوا صالحا} أي عملاً صالحاً وهو ما كان موافقاً للشرع، ثم علل هذا الأمر بقوله: {إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} لا يخفى عليّ شيء منه، وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.
{وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة} هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء، والمعنى: أن هذه ملتكم وشريعتكم أيها الرسل ملة واحدة، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقيل: المعنى إن هذا الذي تقدّم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أن المراد بالأمة هنا: الدين، كما في قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أمة} [الزخرف: 22]، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

قرئ بكسر: {إن} على الاستئناف المقرّر لما تقدّمه، وقرئ بفتحها وتشديدها. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض، أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به.
وقال الفرّاء: إن متعلقة بفعل مضمر، وتقديره: واعلموا أن هذه أمتكم.
وقال سيبويه: هي متعلقة ب {اتقون}، والتقدير: فاتقون لأن أمتكم أمة واحدة، والفاء في: {فاتقون} لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختصّ بالربوبية، أي لا تفعلوا ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري، أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه.
ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل فقال: {فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} والفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من الأمر بالتقوى، والضمير يرجع إلى ما يدلّ عليه لفظ الأمة، والمعنى: أنهم جعلوا دينهم مع اتحاده قطعاً متفرّقة مختلفة. قال المبرّد: زبراً: فرقاً وقطعاً مختلفة، واحدها زبور، وهي الفرقة والطائفة، ومثله: الزبرة وجمعها زبر، فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا، فاتبعت فرقة التوراة، وفرقة الزبور، وفرقة الإنجيل ثم حرّفوا وبدّلوا، وفرقة مشركة تبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال. قرئ: {زبراً} بضم الباء جمع زبور، وقرئ بفتحها، أي قطعاً كقطع الحديد {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: كل فريق من هؤلاء المختلفين {بما لديهم} أي بما عندهم من الدين {فرحون} أي معجبون به.
{فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} أي اتركهم في جهلهم، فليسوا بأهل للهداية، ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكلّ شيء وقت. شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من دخل فيه. والغمرة في الأصل: ما يغمرك ويعلوك، وأصله الستر. والغمر: الماء الكثير؛ لأنه يغطي الأرض، وغمر الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء، ويقال للحقد: الغمر، والمراد هنا: الحيرة والغفلة والضلالة، والآية خارجة مخرج التهديد لهم، لا مخرج الأمر له صلى الله عليه وسلم بالكفّ عنهم، ومعنى {حتى حِينٍ}: حتى يحضر وقت عذابهم بالقتل، أو حتى يموتوا على الكفر فيعذّبون في النار.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي أيحسبون إنما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين. {نُسَارِعُ} به {لَهُمْ} فيما فيه خيرهم وإكرامهم، والهمزة للإنكار، والجواب عن هذا مقدّر يدلّ عليه قوله: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} لأنه عطف على مقدّر ينسحب إليه الكلام، أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلاً كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل، فإن ما خوّلناهم من النعم وأمددناهم به من الخيرات إنما هو استدراج لهم ليزدادوا إثماً، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178]. قال الزجاج: المعنى: نسارع لهم به في الخيرات، فحذفت به، و{ما} في: {إنما} موصولة، والرابط هو هذا المحذوف.
وقال الكسائي: إن أنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط. قيل: يجوز الوقف على بنين. وقيل: لا يحسن، لأن يحسبون يحتاج إلى مفعولين، فتمام المفعولين في الخيرات. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ؛ لأن {ما} كافة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الرحمن ابن أبي بكرة: {يسارع} بالياء التحتية على أن فاعله ما يدلّ عليه أمددنا، وهو الإمداد، ويجوز أن يكون المعنى: يسارع الله لهم. وقرأ الباقون: {نسارع} بالنون.
قال الثعلبي: وهذه القراءة هي الصواب لقوله: نمدّهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} قال: يتبع بعضهم بعضاً. وفي لفظ قال: بعضهم على إثر بعض.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة {يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً} قال: ولدته من غير أب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن {أنس} آية قال: عبرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وآويناهما إلى ربوة} قال: الربوة المستوية، والمعين: الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات {ذَاتِ قَرَارٍ}: ذات خصب. والمعين: الماء الظاهر.
وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي وابن عساكر. قال السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس في قوله: {إلى رَبْوَةٍ} قال: أنبئنا أنها دمشق.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام مثله. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عنه.
وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعاً نحوه، وإسناده ضعيف.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه وابن عساكر عن مرة البهزي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الربوة الرملة».
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن عساكر عن أبي هريرة قال: هي الرملة من فلسطين.
وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً.
وأخرج الطبراني وابن السكن وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن الأقرع بن شفي العكي مرفوعاً نحوه.
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وقال: {ياأيها الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} [البقرة: 172]» ثم ذكر: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ يا ربّ، فأنى يستجاب لذلك».
وأخرج سعيد بن منصور عن حفص الفزاري في قوله: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} قال: ذلك عيسى بن مريم يأكل من غزل أمه.
وأخرجه عبدان في الصحابة عن حفص مرفوعاً، وهو مرسل؛ لأن حفصاً تابعي.